الخميس، 14 نوفمبر 2013

طفولة بعيدة بدشداشة سوداء

كتابات - شلش العراقي
بدشاديش سود، ربما هي دشاديش السنة الماضية ، كنا نسحل طفولتنا في مثل هذا اليوم ، باتجاه سدة الثورة، يتقدمنا مراهقون يكبروننا سنا، انها مهمة الليلة السابقة لليلة العاشر من محرم (الحجة) كما نسميها ، مهمة جمع (التايرات) العتيقة ، الكبار يدحرجون (تايرات) المركبات الثقيلة ،
اما نحن الصغار فننبش الارض بحثا عن( تايرات) تناسب حجم طفولتنا ، نعود بفرح مبهم الى قطاعنا ، نرتب الاطارات فوق بعضها ونبدأ حراستها ، فهي وقود الليلة الباردة الطويلة ، تلك الليلة التي يتركنا فيها الاهل بدون رقابة حتى الصباح ، ،ليلة العاشر من محرم ، وقبل ان يحل ظلامها ، تتصاعد نار الاطار الاول ، يسبقها دخانها الاسود الذي يلامس الغيوم القديمة. نشكل دائرتنا حول النار ،وتبدأ امهاتنا واخواتنا التجوال من بيت الى بيت ، مسرحات الشعور الطويلة ، راكضات نادبات نائحات، تتقدمهن مهدية الملاية :
طاحت النجمة عالجرف ياعباس
كلي الشمر كومي اركبي ياعباس
النار تتصاعد ، واطار يتبع اطارا ، وطفولتنا تستنشق دخانا اسود مازالت رائحته عالقة في انوفنا ، انها ليلة الحجة ....
حجة للصبح ما نام ... بعيوني ملح مانام
كانت صبايا الحي بثياب سود مثل فراشات حزينة ، يتقافزن مع الامهات ، يتدربن على اللطم والعويل والبكاء والاخلاص لزينب (ع) بطلة اطول ليلة في التاريخ ، انسل خلسة من بين اصحابي الى تجمع النساء ، لابصّر بينهن وجه امي رحمها الله ، وقد بللت الدموع خديها واختنق صوتها بالبكاء ، امي التي نسيتي الليل بطوله ، ولم تتفقد طفولتي التي تسهر قرب اطار يحترق ، امي التي انساها الحسين ابنها مرميا قرب نيران تتصاعد بشراسة كلما توغل الحزن في الليل ،
تكوينا النار فنبتعد قليلا الى الخلف ، ويلسعنا برد الايام القديمة فنعود الى دائرة النار ، يتقدم منا كريم ابن حجي جبار يحمل مسجلا قديما ويشغل الكاسيت فينطلق الصوت الذي يحرص كريم على ان يبقيه خافتا كسر من اسرار هذه الليلة ،
صحنا بيك امنا يحسين بضمايرنا
لا صيحة عواطف هاي لادعوة ومجرد راي
هذي من مبادئنا ..
لم يكن الحسين بالنسبة لنا سياسيا ، لم يكن من حصة حزب او جهة ، بالاحرى لم يكن مخطوفا من احد ، كان لنا جميعا ، ، انه الحسين ، اكبر ان يحصر في جماعة ، لقد كان السماء كلها ، كما كان الارض كلها ،الحسين يعنينا لانه الحسين ، لانحتاج الى معنى ، لانحتاج الى شعار ولافتة، لانحتاج الى من يدلنا الى طريق يفضي الى حب الحسين ،دشداشة سوداء وحزن يهبط بمظلة الذكرى .تجدده السنوات ،
يمر الليل بطيئا وتمر النعاسات وتنتهي الحكايات ، يدب في اجسادنا الغضة الخدروالوهن ، ونلوذ من النعاس بالنعاس ، لابد ان تشرق الشمس على يقضتنا لكي نؤدي الواجب كاملا غير منقوص ، لن يغلبنا الكبار في شيء ، والعار كل العار لمن يستسلم لنعاسه وينام ليلة عاشوراء،
يبدأ الفجر بالزحف خجلا من ليلة الحزن ، وياتي باهتا مرا مريضا ،يأتي فجرا كسيحا ، نتفرق الى البيوت تاركين اخر شعلة لاخر اطار يحترق وحيدا وموحشا ، نتمدد قرب المدافيء نتسمع صوتا بعيدا من اذاعة مشوشة .........
"لما اصبح الحسين يوم عاشوراء ، صلى بصحبه صلاة الصبح ، وقام خطيبا فيهم ، حمد الله واثنى عليه ..."
انه صوت المرحوم عبد الزهرة الكعبي ،وهو يقرا قصة المقتل التي تنتزع الدموع من القلوب ساعتين كاملتين او اكثر قليلا ،وتنتهي ببكاء مر وصراخ غريب ، الحسين مضرجا بدمه الطاهر يرفع يديه الى السماء وهو يقول في لحظة توقف الزمن عندها مذهولا :
"اللهم اجعلهم طرائق قددا، ولاترض الولاة عنهم ابدا، اللهم اجعل بأسهم فيما بينهم، وسلط عليهم من لا يرحمهم .."
اجل ياسيدي يا حسين ، لقد اصبحنا نحن ابناء قتلتك طرائق قددا ، عشرات الاحزاب والتيارات والجماعات ، وهاهو بأسنا فيما بيننا ، دماؤنا تسفك كل يوم بايدينا ،كل يوم ياسيد الشهداء نقتل بعضنا ، ونبشرك يابن بنت رسول الله ، لم يرض عنا حاكم ولم نرض عن حاكم ابدا ،لقد استجاب الله لدعائك وسلط علينا من لايرحمنا ، لقد سلط علينا من يضحك على طيبتنا وسذاجتنا ..
وصل الدعاء ياسيدي ، لقد قتلناك وها نحن نملآ الدنيا ندما مجنونا عليك ، ندما علقما اقله تناثر دماء جماجمنا بقامتنا وسيوفنا ، انظر الينا يابن بنت النبي المصطفى ، كيف قست قلوبنا وصرنا نشج هامات اطفالنا بسيوفنا لتصعد منها نوافير الدم الى عيوننا ،كأن الله جعلنا مثل قاتليك بلارحمة او رأفة او مشاعر انسانية ، ..
ياسيدي اتوسلك بطفولاتنا المرة التي تشربتها الليالي الحزينة ، بدموع امهاتنا ، بنحيب ابائنا ،ان تقبل ندمنا وتسمع عذرنا ، نحن احبابك ابتلينا ، بخاطفيك ، كل يدعي انك جده ونحن لااجداد لنا سوى اولئك الفلاحين الذين ماتوا بالسل ، او التيفوئيد ، لا اجداد لنا ياسيدي ولااباء ، عشنا الدهر كله يتامى اولاد يتامى ، لقد سرقوا حتى حزننا البريء عليك ويريدونه حزنا سياسيا من اجل ان تسيل دماؤنا انهارا ، يريدونك رئيس حزب، او زعيم قبيلة ، لقد اختطف اسمك يا سيدي وكأننا غرباء عن طفولتنا بدشاديشها السود ، لقد اختصروك في بيت او عائلة ، بل لقد بالغوا في الاختصار، لتصبح ياسيد الاحرار مجرد عمامة سوداء ، عمامة تسوسنا باسمك ، وتأخذنا ذات اليمين وذات الشمال نلطم ولايلطمون معنا، نفلق رؤسنا ورؤس اولادنا ورؤسهم ورؤس اولادهم سالمة معافاة ، عمامات لابسوها حمر الخدود يتنعمون بدفء القصور، استعجلوا الجنة ولبسوا السندس والحرير، ويشربون ماء مزاجها كافورا وحياتهم كلها قطوف دانية ، ونحن مازلنا نحن ، فقراء شاحبين بدشايش قصيرة ، نلطم الصدور ونفلق الهامات حزنا عليك ، سيدي ياسيد الشهداء باسم صرختك الشريفة صرخة الكبرياء عمرت قصور ونهبت اموال ، وزفت عذارى وقبلت اياد السارقين ، ....
سيدي ياسيد الشهداء ، سوف اذهب هذا العام وحيدا الى السدة ، لادحرج اطارا كبيرا، اسهر على ناره وحيدا ، وسابكي وحيدا ، اترقب وجه امي ربما تاتي الليلة معي ، ربما يشدها الحنين الى طفولتي ، اريد امي ، اريد دشاشة سوداء عتيقة ، اريد ان ابكي ياحسين ، بلدي مجروح ياحسين ، العراق يئن من اقصاه الى اقصاه ياحسين ، العراق يحتضر ياحسين ،العراق ينزف ابنائه ياحسين .. ونحن المساكين الفقراء ليس لنا سوى العراق ، .. ليس لنا سوى العراق ياحسين ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.