كتابات - شلش العراقي
بدشاديش سود، ربما هي دشاديش السنة الماضية ، كنا نسحل طفولتنا في مثل هذا
اليوم ، باتجاه سدة الثورة، يتقدمنا مراهقون يكبروننا سنا، انها مهمة
الليلة السابقة لليلة العاشر من محرم (الحجة) كما نسميها ، مهمة جمع
(التايرات) العتيقة ، الكبار يدحرجون (تايرات) المركبات الثقيلة ،
اما نحن
الصغار فننبش الارض بحثا عن( تايرات) تناسب حجم طفولتنا ، نعود بفرح مبهم
الى قطاعنا ، نرتب الاطارات فوق بعضها ونبدأ حراستها ، فهي وقود الليلة
الباردة الطويلة ، تلك الليلة التي يتركنا فيها الاهل بدون رقابة حتى
الصباح ، ،ليلة العاشر من محرم ، وقبل ان يحل ظلامها ، تتصاعد نار الاطار
الاول ، يسبقها دخانها الاسود الذي يلامس الغيوم القديمة. نشكل دائرتنا حول
النار ،وتبدأ امهاتنا واخواتنا التجوال من بيت الى بيت ، مسرحات الشعور
الطويلة ، راكضات نادبات نائحات، تتقدمهن مهدية الملاية : طاحت النجمة عالجرف ياعباس كلي الشمر كومي اركبي ياعباس النار تتصاعد ، واطار يتبع اطارا ، وطفولتنا تستنشق دخانا اسود مازالت رائحته عالقة في انوفنا ، انها ليلة الحجة .... حجة للصبح ما نام ... بعيوني ملح مانام
كانت صبايا الحي بثياب سود مثل فراشات حزينة ، يتقافزن مع الامهات ،
يتدربن على اللطم والعويل والبكاء والاخلاص لزينب (ع) بطلة اطول ليلة في
التاريخ ، انسل خلسة من بين اصحابي الى تجمع النساء ، لابصّر بينهن وجه امي
رحمها الله ، وقد بللت الدموع خديها واختنق صوتها بالبكاء ، امي التي
نسيتي الليل بطوله ، ولم تتفقد طفولتي التي تسهر قرب اطار يحترق ، امي التي
انساها الحسين ابنها مرميا قرب نيران تتصاعد بشراسة كلما توغل الحزن في
الليل ، تكوينا النار فنبتعد قليلا الى الخلف ، ويلسعنا برد
الايام القديمة فنعود الى دائرة النار ، يتقدم منا كريم ابن حجي جبار يحمل
مسجلا قديما ويشغل الكاسيت فينطلق الصوت الذي يحرص كريم على ان يبقيه خافتا
كسر من اسرار هذه الليلة ، صحنا بيك امنا يحسين بضمايرنا لا صيحة عواطف هاي لادعوة ومجرد راي هذي من مبادئنا ..
لم يكن الحسين بالنسبة لنا سياسيا ، لم يكن من حصة حزب او جهة ، بالاحرى
لم يكن مخطوفا من احد ، كان لنا جميعا ، ، انه الحسين ، اكبر ان يحصر في
جماعة ، لقد كان السماء كلها ، كما كان الارض كلها ،الحسين يعنينا لانه
الحسين ، لانحتاج الى معنى ، لانحتاج الى شعار ولافتة، لانحتاج الى من
يدلنا الى طريق يفضي الى حب الحسين ،دشداشة سوداء وحزن يهبط بمظلة الذكرى
.تجدده السنوات ، يمر الليل بطيئا وتمر النعاسات وتنتهي الحكايات ،
يدب في اجسادنا الغضة الخدروالوهن ، ونلوذ من النعاس بالنعاس ، لابد ان
تشرق الشمس على يقضتنا لكي نؤدي الواجب كاملا غير منقوص ، لن يغلبنا الكبار
في شيء ، والعار كل العار لمن يستسلم لنعاسه وينام ليلة عاشوراء،
يبدأ الفجر بالزحف خجلا من ليلة الحزن ، وياتي باهتا مرا مريضا ،يأتي فجرا
كسيحا ، نتفرق الى البيوت تاركين اخر شعلة لاخر اطار يحترق وحيدا وموحشا ،
نتمدد قرب المدافيء نتسمع صوتا بعيدا من اذاعة مشوشة ......... "لما اصبح الحسين يوم عاشوراء ، صلى بصحبه صلاة الصبح ، وقام خطيبا فيهم ، حمد الله واثنى عليه ..."
انه صوت المرحوم عبد الزهرة الكعبي ،وهو يقرا قصة المقتل التي تنتزع
الدموع من القلوب ساعتين كاملتين او اكثر قليلا ،وتنتهي ببكاء مر وصراخ
غريب ، الحسين مضرجا بدمه الطاهر يرفع يديه الى السماء وهو يقول في لحظة
توقف الزمن عندها مذهولا : "اللهم اجعلهم طرائق قددا، ولاترض الولاة عنهم ابدا، اللهم اجعل بأسهم فيما بينهم، وسلط عليهم من لا يرحمهم .."
اجل ياسيدي يا حسين ، لقد اصبحنا نحن ابناء قتلتك طرائق قددا ، عشرات
الاحزاب والتيارات والجماعات ، وهاهو بأسنا فيما بيننا ، دماؤنا تسفك كل
يوم بايدينا ،كل يوم ياسيد الشهداء نقتل بعضنا ، ونبشرك يابن بنت رسول الله
، لم يرض عنا حاكم ولم نرض عن حاكم ابدا ،لقد استجاب الله لدعائك وسلط
علينا من لايرحمنا ، لقد سلط علينا من يضحك على طيبتنا وسذاجتنا ..
وصل الدعاء ياسيدي ، لقد قتلناك وها نحن نملآ الدنيا ندما مجنونا عليك ،
ندما علقما اقله تناثر دماء جماجمنا بقامتنا وسيوفنا ، انظر الينا يابن بنت
النبي المصطفى ، كيف قست قلوبنا وصرنا نشج هامات اطفالنا بسيوفنا لتصعد
منها نوافير الدم الى عيوننا ،كأن الله جعلنا مثل قاتليك بلارحمة او رأفة
او مشاعر انسانية ، .. ياسيدي اتوسلك بطفولاتنا المرة التي
تشربتها الليالي الحزينة ، بدموع امهاتنا ، بنحيب ابائنا ،ان تقبل ندمنا
وتسمع عذرنا ، نحن احبابك ابتلينا ، بخاطفيك ، كل يدعي انك جده ونحن
لااجداد لنا سوى اولئك الفلاحين الذين ماتوا بالسل ، او التيفوئيد ، لا
اجداد لنا ياسيدي ولااباء ، عشنا الدهر كله يتامى اولاد يتامى ، لقد سرقوا
حتى حزننا البريء عليك ويريدونه حزنا سياسيا من اجل ان تسيل دماؤنا انهارا ،
يريدونك رئيس حزب، او زعيم قبيلة ، لقد اختطف اسمك يا سيدي وكأننا غرباء
عن طفولتنا بدشاديشها السود ، لقد اختصروك في بيت او عائلة ، بل لقد بالغوا
في الاختصار، لتصبح ياسيد الاحرار مجرد عمامة سوداء ، عمامة تسوسنا باسمك ،
وتأخذنا ذات اليمين وذات الشمال نلطم ولايلطمون معنا، نفلق رؤسنا ورؤس
اولادنا ورؤسهم ورؤس اولادهم سالمة معافاة ، عمامات لابسوها حمر الخدود
يتنعمون بدفء القصور، استعجلوا الجنة ولبسوا السندس والحرير، ويشربون ماء
مزاجها كافورا وحياتهم كلها قطوف دانية ، ونحن مازلنا نحن ، فقراء شاحبين
بدشايش قصيرة ، نلطم الصدور ونفلق الهامات حزنا عليك ، سيدي ياسيد الشهداء
باسم صرختك الشريفة صرخة الكبرياء عمرت قصور ونهبت اموال ، وزفت عذارى
وقبلت اياد السارقين ، .... سيدي ياسيد الشهداء ، سوف اذهب هذا
العام وحيدا الى السدة ، لادحرج اطارا كبيرا، اسهر على ناره وحيدا ، وسابكي
وحيدا ، اترقب وجه امي ربما تاتي الليلة معي ، ربما يشدها الحنين الى
طفولتي ، اريد امي ، اريد دشاشة سوداء عتيقة ، اريد ان ابكي ياحسين ، بلدي
مجروح ياحسين ، العراق يئن من اقصاه الى اقصاه ياحسين ، العراق يحتضر
ياحسين ،العراق ينزف ابنائه ياحسين .. ونحن المساكين الفقراء ليس لنا سوى
العراق ، .. ليس لنا سوى العراق ياحسين ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.